الأستاذ الشيخ حسن الجواهري

بحث الفقه

45/08/23

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الموضوع: كتاب الحجّ/شرائط وجوب حجّة الإسلام /وجوب المبادرة إلى الاستئجار في سنة الموت

 

(مسألة97): الظاهر وجوب المبادرة إلى الاستئجار في سنة الموت، خصوصاً إذا كان الفوت عن تقصير من الميّت، وحينئذ فلو لم يمكن إلّا من البلد وجب وخرج من الأصل، ولا يجوز التأخير إلى السنة الأُخرى ولو مع العلم بإمكان الاستئجار من الميقات توفيراً على الورثة، كما أنّه لو لم يمكن من الميقات إلّا بأزيد من الأُجرة المتعارفة في سنة الموت وجب، ولا يجوز التأخير إلى السنة الأُخرى توفيراً عليهم [1] .

كان الكلام فيما ذهب إليه صاحب العروة والمحقّق الخوئي (قدّس سرّهما) بأنّه تجب المبادرة إلى الاستئجار عن الميّت في سنة الموت، ولا فرق في ذلك بين قصور الميّت أو تقصيره في ترك الحجّ، فإنّ قضاء الحجّ عنه فوري في أوّل سنة الموت.

واستدلّ على ذلك المحقّق الخوئي (قده) بأنّ التركة إذا كانت كافية لإتيان الحجّ فهي باقية على ملك الميّت وهي أمانة شرعيّة بيد الورثة أو الوصيّ، ولا يجوز لهم التصرّف فيها في غير الحجّ أو إبقاءها في أيديهم والتأخير في الاستئجار عنه إلّا بدليل، ولا دليل على ذلك، بل يجب القضاء عنه من أصل التركة، فيجب صرفها في الحجّ عن الميّت في أوّل أزمنة الإمكان، خصوصاً إذا كان ترك الحجّ عن تقصير من الميّت، فإنّ وجوب المبادرة حينئذ أولى؛ لأنّه إذا قصّر في إتيان الحجّ، فإنّه يستحقّ العقاب، وإذا استُؤجر مَن يحجّ عنه في سنة الموت فوراً ارتفع عنه العقاب [2] .

ثمّ ذكر المصنّف (قده) فرعاً آخر يؤيّد الفورية بأنّه لا يجوز للورثة التأخير في الاستئجار عن الميّت إلى السنة الأُخرى توفيراً علىهم بأنّ الحجّ فيها أقلّ مؤونة، بل تجب المبادرة إلى الاستئجار ولو استلزم ذلك دفع أُجرة أكثر من المتعارف. وكذا تجب المبادرة إذا كانت الأُجرة في سنة الموت أكثر من المتعارف بسبب ظروف خاصة في أداء الحجّ.

ولا يقال: إنّ هذا يسبّب ضرراً على الورثة؛ لأنّ التركة بقدر الحجّ لم تنتقل إلىهم حتّى يحصل الضرر من خلال دفع الأكثر، فإنّها تبقى على ملك الميّت ويجب صرفها في الحجّ عنه لتفريغ ذمّة الميّت.

نعم، دفع الأُجرة الزائدة للاستئجار في سنة الموت يستلزم منه تفويت المنفعة على الورثة، ولكن لا دليل على حرمة تفويت المنفعة عن الغير كما إذا كان أحد الأشخاص يمتلك متجراً أو مطعماً في منطقة معيّنة، وقام شخص آخر بفتح متجر أو مطعم آخر في نفس تلك المنطقة، فإنّه قد فوّت المنفعة على الشخص الأوّل ولكن لا دليل على حرمة ذلك.

أقول: إنّ ما استدلّ به المحقّق الخوئي (قده) على الفوريّة يتمّ بناء على القول بأنّ التركة لا تنتقل إلى الورثة إلّا بعد سداد الديون، وأمّا بناء على القول بانتقال التركة كلّها حتّى ثمن الحجّ إلى الورثة وتعلّق حقّ الميّت بها كتعلّق حقّ المرتهن بالعين المرهونة فلابدّ من القول بجواز التأخير وعدم وجوب المبادرة، مع أنّ الفقهاء على كلا القولين قائلون بوجوب المبادرة إلى الاستئجار في سنة الموت. إذن لابدّ وأن يكون الدليل على وجوب المبادرة شاملاً لكلا القولين.

وأمّا ما ذُكر من ارتفاع العقاب لو استُؤجر مَن يحجّ عنه في سنة الموت فوراً، فإنّه غير صحيح أيضاً؛ لاحتمال أنّ رفع العقاب يكون بإتيان الحجّ بجميع الأفعال لا بالاستئجار عنه، هذا أوّلاً.

وثانياً: لا دليل على وجوب المبادرة إلى الاستئجار في سنة الموت؛ لأنّ غاية ما تقتضيه الأدلّة هي وجوب قضاء الحجّ عن الميّت من التركة، فإنّها مطلقة وليس فيها تقييد بكون القضاء في سنة الموت، وهذا الاطلاق دليل على أنّه يجوز التأخير في القضاء والاستئجار عنه ما لم يكن التأخير إهمالاً أو تسويفاً، وهذا نظير ما لو وجب على الولد الأكبر قضاء ما فات أباه من الصلاة أو الصوم، فإنّه ليس مقيّداً بكونه في السنة الأُولى.

مضافاً إلى أنّ وجوب قضاء الحجّ كوجوب القضاء في سائر التكاليف ليس فورياً وإن كان الفور في القضاء أحوط، فإنّه يجب على المكلّف قضاء ما فاته من الصلوات الواجبة والصيام الواجب إلّا أنّه ليس فورياً بل يقضي ذلك متى شاء ما لم يؤدِّ إلى الإهمال والتوهين والاستهزاء. نعم، لو ترك قضاء صوم شهر رمضان إلى رمضان الآتي يكفّر عن كلّ يوم بمدّ من الطعام ولكن ليس معنى ذلك وجوب الفورية.

ودعوى أنّ الحجّ كالدَّين ومقدَّم على ديون الناس والخمس والزكاة فمقتضى ذلك الفورية غير صحيحة؛ لأنّ هناك فرقاً بين قضاء دَين الميّت فوراً وقضاء الحجّ عنه، فإنّ قضاء الدَّين عن الميّت فوراً إنّما يجب لأنّ تأخير الدَّين مع حلوله ومطالبة الدائن به يكون ظلماً للدائن والظلم لا يجوز، وأمّا بالنسبة إلى الحجّ الذي وجب عليه ووجب الاستنابة عن الميّت، فإنّ تأخيره لا يكون ظلماً ما لم يوجد دليل على الفورية، ففرق بين قضاء دَين الميّت فوراً وبين قضاء الحجّ عنه، فإنّ أدلّة قضاء الحجّ عن الميّت مطلقة ويجوز فيها التأخير ولا يكون ظلماً لكن بالنسبة إلى قضاء دَين الدائن مع مطالبته به فيكون التأخير ظلماً. مع أنّنا لم نقبل تقديم الحجّ على ديون الناس، وإنّما قبلنا تقديم الحجّ على الخمس والزكاة لا على ديون الناس.

نعم، يحرم التأخير على الوصي أو الورثة في القضاء عن الميّت إذا عُدّ إهمالاً أو تسويفاً بالحجّ ويوجب الضمان لو تلف ثمن الحجّ إلّا أنّ الضمان لا يلازم عدم جواز التأخير.

وكذا الكلام في أصل أداء الحجّ على المكلّف ـ فضلاً عن القضاء ـ عند الاستطاعة، فإنّه لا يجب على الفور ويجوز الإتيان به بعد سنة الاستطاعة؛ إذ لا دليل على الفورية، ولكن ذهب المشهور من فقهائنا والشافعي وجماعة آخرين إلى أنّه واجب فوري إلّا أنّ الدليل لا يساعد ذلك.

وقد استدلّ على وجوب الحجّ على التراخي بأنّ وجوبه شُرّع في السنة السادسة أو التاسعة من الهجرة، وفتحت مكّة في السنة الثامنة، ولكن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يخرج لأداء الحجّ في السنة التاسعة وبعث هيئة من المسلمين للحجّ من المدينة، فلو كان الحجّ واجباً على الفور لما تخلّف رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن الإتيان به بعد أن تمكّن من الأداء.

وفيه: إنّ فعل النبي (صلى الله عليه وآله) دليل لبّي ولا يمكن إحراز الظروف التي كان فيها (خصوصاً إنّ حجّ الرسول (صلى الله عليه وآله) له وقائع سياسية ولعلّه لم يجب عليه سنة تشريع الحجّ، فإنّ لكل شخص خصوصياته)، فلا يكون إطلاق في فعله (صلى الله عليه وآله).

والأوامر الواردة بوجوب الحجّ على المكلّفين كالآية الشريفة وغيرها لا تدلّ أيضاً على الفور ولا على التراخي؛ لأنّ صيغة الأمر المجرّدة عن القرائن لا تدلّ على أحدهما بل المتبادر منها إرادة الطلب والنسبة الطلبية لا أكثر، ولذا لو قال المولى لعبده: «إيتني الماء» فإنّه يدلّ على الفور بمقتضى قرينة رفع العطش، ولو قال: «اشتري لي تلك الساعة» فإنّه يدلّ على التراخي بمقتضى قرينة عدم احتياجه بالفعل إلى الساعة التي أمر بشرائها.

ثمّ إنّنا نقول: إنّ المراد من الفورية التي ذكرها العلماء هي الفورية العقلية من باب الاحتياط لا من باب الوجوب الفوري الشرعي، وبناء على ذلك يكون المراد من الفورية في الحجّ هو عدم التأخير في الإتيان به بنحو يوجب الإخلال بالأداء في السنة الثانية والثالثة من دون عذر، فيستحق العقاب.

ثمّ إنّ هذا كلّه في أصل وجوب الحجّ بعد الاستطاعة، أمّا نحن فكلامنا هنا في القضاء عن الميّت الذي كان مستطيعاً ولم يحجّ، وهنا لا دليل على الفورية أيضاً بل لا يجوز للوصي أو الورثة الذين يعلمون بأنّ على الميّت حجّاً يجب قضائه التسويف والإهمال، بل إذا حصل وثوق نوعي بإمكان الاستنابة عنه في السنة الثانية فهو أمر جائز، إذن في هذه المسألة (القضاء عن الميّت) لا دليل على الفورية أصلاً أيضاً.

وبالجملة: إنّ الروايات الدالّة على وجوب الحجّ على المستطيع لا تدلّ على الفور ولا على التراخي، وكذا الروايات الدالّة على قضاء الحجّ عن الميّت لا تدلّ على أحدهما، فإنّها مطلقة وليس فيها تقييد بكون القضاء في سنة الموت، فإذا حصل وثوق نوعي بالقضاء والاستئجار عنه في السنة الثانية والثالثة يجوز التأخير ما لم يكن فيه إهمالاً أو تسويفاً.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo